كيف تكسر غزة حصارها؟!

الكاتب: د. عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين 

على الرغم من عدم القدرة على إنكار حقيقة إطباق الحصار على تفاصيل الحياة اليومية لأهالي غزة، وخنقه لأحلام وطموحات الآلاف من شباب القطاع، إلا أن وميض الأمل في عقول وقلوب الشباب الغزي لم يخبو، بل كان أحد الأسباب التي جعلتهم يسطرون حكاية إصرار، عنوانها أن للمعاناة برغم قسوتها وبشاعتها دور في تصليب عودهم، وبأن ابداعات ما تولد من رحم تلك المعاناة.

أرقام الاحصائيات التي تشير إلى أن نسبة التعليم في قطاع غزة تضع شبابها في مقدمة الشعوب العربية، تشي بأن شباب غزة يصرون على أن يكونوا الذخيرة التي يواجه بها القطاع سجّانيه، ومحاصريه، بل ومن خلال ابداعاتهم وتفوقهم في أصعدة مختلفة، ومجالات علمية متنوعة، من شأن ذلك أن يضعهم –مع أترابهم في الضفة الغربية- في صدارة مشروع نهضة شعب بعد خلاصه من الاحتلال، والحصار الإسرائيلي الجائر، وحصوله على حقوقه المشروعة، وتمكنه من تقرير مصيره، وبناء دولته المستقلة.

ولعل مشاهدتي لمقاطع فيديو تظهر فرحة أبطال فريق السلة من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، بعد حصولهم على المركز الأول خلال مشاركتهم في بطولة بالهند، مؤخراً، كانت من أهم الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه السطور، ولتلك المشاهد عمقها الإنساني، سيما وأن غالبية أعضاء الفريق الفلسطيني يتشاركون في معاناة واحدة، كونهم مبتوري الأقدام، بعدما حرمهم الاحتلال هذه النعمة، عبر حروبه واعتداءاته المستمرة على قطاع غزة.

ولا تبخل علينا غزة بتقديم الأمثلة على ممارستها للتفوق والتميز كفعل يومي، تزداد وتيرته مع اشتداد قبضة الجلّاد المطبقة على عنق الغزيين، ومع مفاقمة معاناتهم، كما لو أنهم يريدون بذلك أن يرفعوا صرخة التحدي في وجه الاحتلال، بدلاً من أصوات الأنين، وإثبات الوجود أمام الكون بأسره، بأن غزة قادرة على المساهمة في الحضارة الإنسانية، وبأن تقدم للبشرية الكثير مما ينفعها، رغم القيود والتكبيل بسلاسل الحصار، وممارسات الاحتلال الهمجية.

المبادرات الشبابية المختلفة إحدى أشكال السلوكيات الحضارية لأبناء القطاع، كمبادرة جمع الاحتياجات الأساسية من الغذاء والملابس للعائلات النازحة في الملاجئ غير الرسمية، عقب الحروب التي تشنها دولة الاحتلال، وحملات التنظيف وإزالة الأنقاض التي تتبع الحروب، والتي اتخذت مؤخراً طابعاً حماسياً لا يخلو من التحدي، حيث أطلقت بعد العدوان الأخير حملة تنظيف وإزالة أنقاض شاملة حملت عنوان “بدنا نعمرها”، إلى جانب حملات أخرى كتلوين مجموعات من الشباب أحياء منطقتي الزيتون والشاطئ في القطاع بألوان تبعث على الفرح والبهجة.

وفي سياق التغلب على الأوضاع الاقتصادية والانسانية التي تعد من بين الأسوأ على مستوى العالم، بحسب تقارير دولية، كانت الحاجات في غزة أم الاختراعات، كصناعة سيارة تعمل بالطاقة الشمسية، بعدما شح الوقود في القطاع بسبب الحصار، فقد تمكن الشابان جمال الميقاتي وخالد البردويل، خريجا كلية الهندسة من جامعة الأزهر في غزة، في العام 2016، من تحقيق طموحهما بصناعة أول سيارة تعمل على الطاقة الشمسية في القطاع المحاصر. وهي الأولى من نوعها على مستوى فلسطين وبعض الدول العربية.

وليس بعيداً عن ذلك نجاح الطالبان عطية البرش وماهر الجمل، من كلية العلوم في الجامعة الإسلامية، في العام 2010، من اختراع جهاز لانتاج الغاز، حيث كان الهدف منه التخفيف من أزمة شح غاز الطهي، وتقوم فكرة المشروع على استخراج غاز من المخلفات العضوية المنتشرة في جميع أنحاء القطاع، مثل روث الحيوانات وبقايا الطعام، ومخلفات النجارة، أما المهندس محمد الأخشم، فقد كان له تجربته الخاصة وذلك في تطوير بديل عن الاسمنت المستورد يقوم على فكرة إنتاج إسمنت التشطيبات الداخلية، بعدما دفعته حاجة القطاع للاسمنت لأعمال البناء وإعادة الإعمار، الذي يمنع الاحتلال دخوله إلا في إطار شروط قهرية.

وربما يعد مشروع المهندسان المدنيان أحمد الجدبة وأيمن عاشور، صناعة حجر بناء بلاستيكي بديل عن التقليدي، يعد مشروعاً مكملاً لمشروع المهندس محمد الأخشم، أما المهندس ضياء أبو عاصي، فقد تلمّس حاجة شعبه للمياه الصالحة للشرب، في ظل سرقة الاحتلال لمياه الفلسطينيين، وشحها في غزة تحديداً مع ارتفاع نسبة الملوحة في المياه، ليتولد عن ذلك تنفيذ أبو عاصي لمشروع تحلية مياه البحر، ويسجل اسمه كأول عربي يصمم جهاز تحلية مياه البحر بتقنية النانو، في العام 2015، ولمعالجة مشكلة انقطاع الاتصال الناجمة عن الانقطاعات المستمرة للكهرباء، تمكنت الطالبة شهد أبو لبدة (16 عاماً) من ابتكار جهاز بسيط لشحن الهواتف الذكية، يعتمد على الحرارة في توليد الكهرباء.

وفي المجال الطبي، برعت فتاتان متخرجتان من كلية الهندسة في جامعة الأزهر بغزة (هديل مرتجى ونور أبو العون)، في العام 2016، من إنجاز مشروع لجهاز إلكتروني طبي يخدم كبار السن والمرضى، ويساعد في الكشف عن الأمراض وتشخيصها، حيث يمكّن الجهاز -الذي يرتديه المريض في المعصم كالساعة- الطبيب من معرفة حالة مريضه عن بعد، وفي حال تدهورت حالة المريض، يرسل الجهاز تنبيهاً للطبيب عبر التطبيق، أو من خلال رسالة نصية عبر الجوال، أو مشاركة على برنامجي التواصل الاجتماعي “واتس آب” و”فايبر”، مرفق معها تشخيص كامل للحالة.

وللانقطاع المستمر في التيار الكهرباء، على الرغم من تداعياته المأساوية، تأثيراته في إطلاق إبداعات أخرى، كاختراع الطالبة هبة عبد الهادي، وهو عبارة عن جهاز تسخين للمياه عن طريق الطاقة الشمسية، ورغم امكاناته المتواضعة، إلا أن عظمة الانجاز، إلى جانب أهمية الابتكار، تأتي كونه من ابداع ابنة الصف العاشر الأساسي، ما يؤكد على أن الإبداع في غزة يبدأ مبكراً في عقول أبنائها.

وهنالك من المبدعين من لا يكتفي باختراع أو ابتكار واحد، فتجربة المهندس خالد بشير، في العام 2008، تفتقت عن انجازه لجهاز الطهي الذي أسماه “كهروشمسي”، والذي يعمل على إنضاج الطعام بالكهرباء بواسطة الطاقة الشمسية، إضافة لجهاز لتحلية المياه، يعمل على استغلال أشعة الشمس في تحلية المياه، إلى جانب قيام الجهاز بوظائف أخرى كتوفير المياه الساخنة، حيث تعتمد ابتكارات بشير جميعها على استغلال الطاقة الشمسية النظيفة والمتجددة.

ولا تتوقف الابداعات الغزية عند حد، بل إنها تحاكي ابتكارات عصرية في أكثر دول العالم تطوراً، وربما تبتدع ما هو أكثر تطوراً من ناحية الفكرة و”التكنيك”، وليس بالضرورة من ناحية الامكانيات المادية المتاحة، فنجاح ثلاثة طلاب من القطاع (الأخوين راما وأحمد إبراهيم، ويوسف عقل)، خلال العام الجاري، في اختراع أول روبوت ذكي يساعد فرق الإنقاذ في الوصول إلى المصابين المتواجدين تحت الأنقاض بسرعة أكبر للتقليل من فرص المخاطرة بحياتهم، يعتبر مثالاً على التميز العالمي، وليس المحلي، أو الاقليمي، ما يدلل على فرادة هذه الابتكارات في بقعة جغرافية لا تتعدى الـ360 كيلومتر، يعيش عليها ما يزيد عن المليوني إنسان، يرزحون تحت حصار جائر منذ أكثر من 15 عام.

إبداعات الغزيين تتنوع في كل المجالات والقطاعات العلمية والعملية، فالصناعات التكنولوجية، في حقول البرمجيات والاتصالات تشهد على تفوق الشباب الغزي في هذا المجال، كما استطاع شباب غزة وضع أسمائهم في الصفوف الأولى بين المبدعين في مجالات الإعلام، والترجمة واللغات، والأدب، والفنون، فضلاً عن بروزهم في مجال العلوم الدينية، ولعل تخريجهم لحفظة كتاب الله بأعداد كبيرة، وبإمكانيات متميزة في التجويد والتفسير، وغير ذلك، يقدم مثالاً على مزاوجة العقول المبدعة بالقلوب التي يعمرها الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والانغماس والتدبر في كلمات كتابه الكريم.

نموذج غزة، وما يتضمنه من إصرار شعب على التميز والتفوق العلمي والحضاري، يضعنا أمام مقاربات لنماذج أخرى يمكن استيحاءها، إن جاز لنا ذلك، كالهندي مثلاً، سيما وأن الهند تشهد منذ سنوات نهضة اقتصادية وتكنولوجية، كان لها الأثر الأبرز في تحسين المستوى المعيشي للشعب الهندي، مع تقدمها اللافت في مجال صناعة البرمجيات، وتبوّء مراكز متقدمة عالمياً في تصديرها للبرمجيات والخبرات على حد سواء، ما دفع مراكز الرصد والدراسات للتنبؤ بتصدر الهند كأحد أكبر اقتصادات العالم في المستقبل القريب.

وليس من المستغرب أن تلحق الأمم بركب التطور والتقدم، إذا ما وضعت الخطط والبرامج للنهوض بالتعليم، وقطاعات أخرى تشكل عصب الحياة كالصحة، وتحسين معيشة شعوبها، فلتركيا تجربتها المشهودة، والتي بدأت منذ عدة سنوات، وهنالك دول أخرى تسير على الطريق ذاته كالبرازيل..واثيوبيا ورواندا، وغيرها من الدول التي وضعت نصب أعينها أهداف التقدم والازدهار، ووضعت الخطط الاستراتيجية لتحقيق تلك الغايات.

ومما لا شك فيه، بأن الوقوف إلى جانب التجارب المضيئة في بلداننا العربية والإسلامية، ومنها غزة، يعتبر وقوفاً يشكل بداية طريق النهوض، ويضاف إلى رصيد الأمة، ويستعيد دورها الحضاري في سجل الإنسانية، وذلك من خلال دعم وتمويل ابداعات واختراعات وابتكارات الشباب، والعمل في إطار ذلك على حشد ما أمكن من جهد لإنجاز المشروع الأكثر إلحاحاً في المرحلة الحالية، والمتمثل في كسر الحصار عن غزة.

وفي حين يتطلب كسر الحصار المزيد من الجهد السياسي، والضغط باتجاه إحداث اختراق في التوازنات السياسية، حيث لا يتحقق ذلك إلا بالانفتاح على قوى سياسية دولية من شأنها أن توفر بيئة سياسية داعمة ومساندة للموقف الفلسطيني، وبناء شبكة علاقات سياسية ذات تأثير في هذا الاتجاه، فإن تشكيل حركة تضامنية دولية مع قطاع غزة، إلى جانب تقديم الدعم الإنساني عبر تمويل مشاريع طموحة، سيكون لها حتماً الأثر الإيجابي الكبير في التخفيف من وطأة الحصار الظالم على القطاع، وصولاً لإفشال الغاية الاستراتيجية منه وهي إخضاع الشعب الفلسطيني، ودفعه للتنازل عن حقوقه المشروعة.

ولا يمكن إنكار محصلة جهود بذلت على مدى سنوات الحصار، سعت لكسره، وشكلت اختراقات نسبية، وان لم تكن تخلُ من تقديم التضحيات الجسام، كمسيرات العودة الكبرى التي سقط فيها عشرات الشهداء والجرحى، وشكلت حالة ضاغطة على الاحتلال، وأجبرته على اتخاذ بعض الاجراءات للتخفيف من شدة الحصار أتاحت إدخال كميات من احتياجات القطاع من الوقود ومواد البناء، وازى ذلك بعض الانفراجات على ضبط آلية عمل معبر رفح البري مع مصر، والتفكير الجدي في إنشاء طريق دولي فاصل بين منطقتي رفح ومحافظة شمال سيناء، بجهود مصرية وإشراف مصري، ضمن جهود رفع كفاءة شبكة الطرق الممتدة من القطاع لمصر، عبر معبر رفح البرّي.

وفي المحصلة، فقد تفوقت العقول الغزية على المحتل المدجج بأحدث الأسلحة، والمنذور له دولياً بديمومة الدعم النوعي، وأثبت الغزيون قدرتهم على الصبر والمثابرة، بعدما قبلوا التحدي، وواجهوا الحصار والحروب والهمجية، بالإبداع والتفوق العلمي والابتكار، وتقديم مشروع حضاري إنساني للبشرية، وعلى الرغم من أن الحصار لم ينكسر بعد، إلا أن لغزة الحق أن تعلن انتصارها على الجلّاد بعدما تمكنت من كسر أنياب وحش الحصار، وترويضه، دون أن تتخلى عن حقوقها الثابتة والتاريخية، وأن تكتب للإنسانية روايتها وسرديتها الخاصة في شغفها للحرية، والحياة المترعة بعشق الأرض، تلك السردية التي يستعصي فهمها على المستعمر، وعلى تجار الحروب، والمقامرين بحرّية ودماء الشعوب الحرة.