الدولة الفلسطينة القادمة ستولد عطشى وقد تموت عطشا ً …بقلم: م.فضل كعوش

الماء في فلسطين

[highlight]شرق الإعلامية[/highlight] – الماء هو عنصر البقاء والوجود للأنسان والحيوان والنبات ولكل كائن حي ، ووجود المياه هو العنصر الحيوي لضمان استمرارية الحياة وتوفير الرفاة للسكان والحفاظ على البيئة الطبيعية وعلى الحياة الريفية والقطاع الزراعي، وحيث توجد المياه توجد الحياة ، قال الله تعالى في سورة النحل : { والله أنزل مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } .

قد تواجه الدولة الفلسطينية القادمة العديد من التحديات والمصاعب الكبرى ، سياسية وإقتصادية وإجتماعية وأمنية وغيرها ، ولكن حسب اعتقادنا فأن قضايا المياه قد تكون اهم وأكبر تلك التحديات ، لأسباب عديدة ، في مقدمتها الجوانب السياسية المرتبطة بما ستؤول اليه مفاوضات الوضع الدائم حول ملف المياه التفاوضي وعلى رأس قضايا هذا الملف مسألة إستعادة الفلسطينيين لحقوقهم المائية كاملة في كافة مجاري وأحواض المياه الجوفية والسطحية الذاتية والمشتركة بما في ذلك حوض نهر ألأردن ، وهو ما يشكل اهم الرهانات امام المفاوض الفلسطيني ، في ظل الموقف ألأسرائيلي المتشدد والرافض والمتنكر لتلك الحقوق .

لهذا فأن الرهان على استعادة الفلسطينيين لحقوقهم المائية قد يكون رهان على الحياة او الموت عطشا ً ، لأن المياه تعتبر موردا وطنيا في غاية ألأهمية للدولة الفلسطينية القادمة ، ولأن الوضع المائي الفلسطيني اصبح في غاية الحرج والصعوبة ، بسبب تفاقم ازمات نقص واتساع مناطق التلوث لمصادر المياه الجوفية في الضفة الغربية وقطاع غزة على السواء ، حيث لا موارد مائية متاحة لدى الفلسطينيين لأغراض الشرب سوى الكميات المحدودة التي يحصلون عليه حاليا من ألأحواض الجوفية ، ولأن مياه نهر ألأردن وهي الشريان الحيوي الذي كان متاحا للفلسطينيين سابقا ، لري ألأراضي الزراعية في منطقة ألأغوار سلة غذاء الفلسطينيين عبر التاريخ ، هذا الشريان الحيوي وهذه المياه ، لم يعد لهما وجود منذ العام 1967 .

يواجه الفلسطينيون في كافة مناطق الضفة الغربية عجزا مائيا تراكميا يقدر حاليا بحوالي 110 مليون متر مكعب في السنة ، للأغراض المنزلية والشرب والصناعة ، بواقع 80 ليتر للفرد في اليوم الواحد كحد اقصى ، وحوالي 200 مليون متر مكعب للأغراض الزراعية ، لري حوالي 200 ألف دونم . اما في قطاع غزة ، فالوضع المائي هناك اكثر حرجا وأكثر تعقيدا وصعوبة عن ما هو في الضفة الغربية ، حيث يمكن وصف الوضع المائي في القطاع بالكارثي في كافة جوانبه وابعاده البيئية والصحية وألأجتماعية وألأقتصادية ، حيث يحتاج القطاع حاليا الى اكثر من 230 مليون متر مكعب من موارد المياه العذبة لتغطية احتياجاته لأغراض الشرب والمنزل والصناعة والزراعة ، والتوقف الفوري عن ضخ المياه من ألأحواض الجوفية لفترة زمنية قد تصل الى 20 عاما .

بدائل المياه غير التقليدية بما في ذلك تحلية مياه البحر وإستخدام مياه لمجاري المعالجة في الزراعة ، لن تشكل حلولا مثالية للدولة الفلسطينية ، ولن يكون بأستطاعة هذه الدولة ألأعتماد على تلك البدائل قبل عشرة سنوات على ألأقل ، الى حين بناء افتصاد وطني قوي وبنية تحتية متكاملة المرافق لخدمات المياه والمجاري ، وإكتساب الخبرة والمعرفة وإمتلاك القدرة الصناعية والتقنية الكافية لأدارة مثل هذه المشاريع الصناعية لمحطات التحلية والمعالجة ومشتملاتها ألأخرى ، لذلك يجب على اصحاب القرار والشأن في هذا ألأمر ، استبعاد اي توجه الى بدائل المياه غير التقليدية في الوقت الحالي .

وقد يزيد هذا ألأمر من تعقيدا وصعوبة من طبيعة وأبعاد التحديات التي ستواجه الدولة الفلسطينية بشأن المياه ، وهو ما يفرض على القيادة السياسية الفلسطينية ان تصر وتتمسك بقوة لأستعادة الحقوق المائية الفلسطينية المغتصبة والمنهوبة من قبل ألأسرائيليين ، على مدى أكثر من أربعة عقود ونصف ، وهذا هو الخيار الوحيد امام الفللسطينيين ولا خيار لهم غيره ، اي خيار استعاد الحقوق المائية كاملة ، وعدم التفكير بالمطلق ببدائل المياه قبل عشرة سنوات كما اشرنا على ألأقل . وإلا فأن الدولة الفلسطينية القادمة ستولد عطشى وقد تجف عروقها مبكرا وتنتهي وتموت عطشا …

الحقائق السياسية والهيدرولوجية وطبيعة التحديات :

إن اكبر المخاوف والمخاطر التي ستواجه قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة والبقاء ،هي بالدرجة ألأولى مدى قدرة هذه الدولة عل مواجهة ومعالجة ازمات نقص المياه المتفاقمة، وطبيعة التحديات المتعلقة بتوفير ما يكفي من المياه لسد العجز الكبير القائم وتلبية حجم الطلب للسنوات القادمة ، لكافة ألأغراض المنزلية والشرب والصناعة والزراعة ومعالجة مخاطر التلوث وتدهور البيئة المائية ، بما يُمَكِن من ضمان متطلبات ألأمن المائي وألأمن الغذائي معا للدولة الفلسطينية القادمة ، في ظل ظروف مائية كارثية صعبة للغاية ومتفاقمة سنة بعد سنة ، تعيشها كافة مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة . وفي ظل السياسات والممارسات المائية ألأسرائيلية المستمرة في السيطرة والتحكم ونهب واستنزاف احواض المياه الجوفية ، ورفض ألأعتراف بحقوق الفلسطينيين في مجاري وأنظمة مصادر المياه الجوفية المشتركة وفي حوض نهر ألأردن .

ويبقى السؤال الجوهري …لماذا سيبقى الفلسطينيون يعانون ويقاسون مرارة العطش ويعيشون ازمات مياه حادة متفاقمة ومستمرة منذ اكثر من اربعة عقود متتالية…..هل لأن ألأراضي الفلسطينية مناطق جافة وصحراوية ، تفتقر الى مصادر المياه ولا تهطل فوقها ألأمطار …. ام ان المياه التي تسقط من السماء فوق ألأراضي الفلسطينية وهي نعمة وهبة من الله ، ليست من حق الفلسطينيين ألأنتفاع بها ، وإنما من حق ألأسرائيليين الصهاينة المحتلين والمغتصبين للأراض والثروات الطبيعية الفلسطينية ، واللذين يسعون الى فرض هذا ألأمر وكأنه قدر كتب على حياة الفلسطينيين والى ألأبد .

الحقائق والمعلومات المناخية والهيدرولوجية المتعلقة بألأوضاع المائية في الضفة الغربية ، يعرفها ألأسرائيليون جيدا ، ولديهم تفاصيل بيانتها التاريخية ، ويعرفون ويدركون ان مساقط ومنابع المياه التي تشكل مصادر التغذية الرئيسية المتجددة لنظام ألأحواض المائية الجوفية الجبلية ، تنشأ وتتكون بكاملها تقريبا داخل حدود الضفة الغربية ، ووفق تلك السجلات فأن معدل الأمطار السنوية التي تسقط فوق رؤوس الفلسطينيين ومنازلهم واراضيهم ، لا تقل عن 500 ملم في السنة ، ينتج عنها كميات هامة من موارد المياه العذبة المتجددة سنويا ، تكفي لسد حاجات الفلسطينيين لعقود طويلة ، حيث يقدر حجم تلك الثروة المائية بحوالي 850 مليون متر مكعب ، يتحول الجزء ألأكبر منها الى باطن ألأرض ، لتشكل تغذية سنوية متجددة لتلك ألأحواض ، بمعدل سنوي يصل الى 700 مليون متر مكعب ، وحوالي 150 مليون متر مكعب ، تشكل تصريف ألأودية الموسمية والجريان السطحي ، إضافة الى حصة الفلسطينيين في حوض نهر ألأردن ، كطرف مشاطيء وشريك كامل في الحوض ، هذه الحصة التي تستند الى قانون المياه الدولي ، وتقدر حسب خطة جونستون لعام 1955 بحوالي 220 مليون متر مكعب ، وهي الخطة التي وافقت جميع ألأطراف المعنية بما في ذلك ألأسرائيليين على جوانبها الفنية ، اي اننا نتحدث عن طاقة مائية سنوية متجددة تصل الى حوالي 1070 مليون متر مكعب ، ما يحصل عليه الفلسطينيون فعليا من هذه الطاقة المائية ، لا يتجاوز حاليا معدل 110 مليون متر مكعب ، أي اقل من نسبة 10% .

شكلت مواقع الينابيع والعيون في فلسطين التاريخية ومن ضمنها مناطق الضفة الغربية ، خارطة توزيع القرى والبلدات الفلسطينية ، حيث لم تكن تخلو بلدة او قرية فلسطينية من عين اونبع ، داخل القرية او بجوارها . وقد حملت العديد من التجمعات الفلسطينية اسماء ينابيعها وعيونها المائية ، وكانت ولا زالت بعض تلك الينابع في معظم مناطق الضفة الغربية بمثابة المصدر الرئيسي بل والوحيد احيانا للمياه العذبة للعديد من البلدات والقرى الفلسطينية . إلا ان تصريف غالبية تلك الينابيع ، قد تراجع بشكل حاد خلال العقود ألأربعة الماضية ، او جفت نهائيا ، وهو نفس الأمر بالنسبة للأبار الزراعية التي كانت ايضا تشكل مصدرا اساسيا للمياه لسكان المناطق الريفية ، وقد تراجعت انتاجيتها بشكل كبير جدا ، وجف عدد كبير منها وأغلق نهائيا . والسبب في ذلك يعود الى عدة عوامل رئيسية اهمها ، تعرض احواض المياه الجوفية الى حالات استنزاف قصوي ، نتيجة لعمليات الضخ الجائر من خلال الأبار ألأسرائيلية التي تم حفرها داخل مناطق الضفة الغربية وغالبيتها في الحوض الشرقي ، وخارج مناطق الضفة الغربية ضمن مناطق امتداد الحوضين الغربي والشمالي الشرقي داخل الخط ألأخضر ، حيث يتم من خلال تلك الأبار، ضخ اكثر من 90% من مجمل طاقة المياه المتجددة سنويا من الأحواض الرئيسية الجبلية الثلاثة

في هذا السياق من الحقائق الثابتة على ارض الواقع ، فأن اكبر وأخطر التحديات التي ستواجه الفلسطينيين في الضفة الغربية خلال السنوات القليلة القادمة ، يتمثل بمخاطر الأستنزاف القصوي الذي تتعرض له الطبقات الصخرية السفلى الحاملة للمياه الجوفية العميقة والذي قد ينتهي بدمار شامل لتلك الطبقات التي تشكل خزانات المياه الجوفية ، وقد ابتدأت مؤشراته تظهر أكثر فأكثر وفق سجلات الرقابة الهيدروجيولوجية التي تقوم بها سلطة المياه منذ نشأتها ، والتي ثبت من خلال سجلاتها الدورية ، وجود معدلات هبوط متزايدة في مستوى سطح المياه في ابار مياه الشرب العميقة ، بمعدل تجاوز خلال السنوات العشرة الأخيرة الماضية المتر الواحد سنويا في ألأحواض الجوفية الرئيسية الثلاثة ، علما بأن الطبقات الصخرية العليا الحاملة للمياه الجوفية التي تقع على عمق يقل عن 150 متر ، وهي الطبقات التي تنتمي اليها معظم ألأبار الزراعية ، قد اصبحت على وشك النضوب ، والدليل على ذلك التراجع الكبير في تصريف وانتاجية عدد كبير جدا من الينابيع الرئيسية المعروفة تاريخيا بغزارة تصريفها العالي ، ومنها وأهمها مجموعة ينابيع الفارعة ، مجموعة ينابيع بردلة ، نبع العوجة ، فصايل وغيرها ، وكذلك ألأمر بالنسبة للعديد من ألأبار الزراعية التي تراجع انتاجها او جفت نهائيا ، علما بأن عدد ألأبار الزراعية التي تم حفرها قبل العام 1967 كان قد تجاوز 720 بئرا منتجة ، ما تبقى منها اليوم لم يعد يتجاوز 214 بئرا تعمل بكفاءة كاملة . قد يكون الفلسطينيون فقدوا بالفعل ما يقارب نسبة 55% من انتاجية تلك الينابيع وألأبار قياسا عن ما كانت عليه قبل عام 1967، والسبب في كل ذلك وكما اسلفنا ، يعود الى ما يقوم به ألأسرائيليون من عمليات استنزاف متواصل لمصادر المياه الجوفية التي تقع مساقطها المطرية كاملة داخل حدود الضفة الغربية . ويخشى ان يفاجأ الفلسطينيون بتوقف ابارهم عن ضخ المياه او تراجعها بشكل كبير ، وهذا ألأمر لا بد انه قادم وحاصل لا محالة ، وهي مسألة وقت ليس الا ، وقد لا تتعدى السنوات الخمسة عشرة القادمة .

كما ان ابعاد الفلسطينيين عن ضفة نهر ألأردن منذ العام 1967 ، افقدهم احد اهم المصادر المائية التي كانوا يعتمدون عليها بشكل كبير ، حيث كان نهر ألأردن بمثابة شريان الحياة بالنسبة لمنطقة ألأغوار الفلسطينية ، وكان المزارعون الفلسطينيون يحصلون على حاجتهم من مياه النهر لري ارضيهم الزراعية التي كانت تشكل سلة غذاء فلسطين قبل ألأحتلال ألأسرائيلي للضفة الغربية عام 1967 ، حيث لم يعد بأمكان المزارعين الفلسطينيين الوصول الى ضفة النهر بعد ذلك ، بسبب قيام سلطات ألأحتلال بأغلاق كامل المنطقة المحاذية للنهر وإبعاد الفلسطينيين عنها وإعلانها منطقة عسكرية حتى اليوم والى اجل غير معروف …

في هذا السياق من المخاوف ، وبعد ان فقد الفلسطينيون حقوقهم في مياه نهر ألأردن الذي تم تدمير جزئه السفلي المحاذي للضفة الغربية وتحويله الى جدول صغير ملوث ، وإبعاد الفلسطينيين عن ضفته منذ العام 1967 ، يخشى ان يفقد الفلسطينيون خلال بضع سنوات ما لديهم من موارد مياه محدودة من ألأحواض الجوفية في حالة جفاف ما تبقى من ينابيع وعيون وابار ، وهو كما اشرنا سابقا ، بأنها مسألة وقت ليس الا ، وفق المؤشرات الهيدروجيولوجية الثابتة ، عندها سيتحول الفلسطينيون الى مستهلك لدى شركة المياه ألأسرائيلية “ميكوروت” ، يخضعون للقرار ألأسرائيلي بأبعاده وغاياته السياسية المعروفة ، والى ألأبد وهو ما يسعى اليه قادة اليمين الأسرائيلي المتطرف .

ألأوضاع المائية في الأراضي الفلسطينية لم تعد بحاجة الى وصف لطبيعتها وأبعادها الكارثية الحرجة والصعبة جدا ، كما ونوعا وفي معظم مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة ، حيث تجاوز العجز المائي السنوي التراكمي في قطاع غزة معدل 180 مليون متر مكعب ، نظرا لأن كميات مياه ألأمطار التي تسقط سنويا فوق مناطق القطاع والمقدرة بحوالي 50 مليون متر مكعب ، اصبحت تتحول الى مياه مالحة بعد دخولها الى باطن ألأرض وإختلاطها بالمياه غير المتجددة المختزنة داخل الطبقات الصخرية الحاملة للمياه الجوفية ، وبالتالي لم تعد احواض المياه الجوفية قادرة على تجديد مخزونها من مياه ألأمطار السنوية ، كمصادر مياه عذبة متجددة . وفي الضفة الغربية فأن غالبية التجمعات السكانية بما في ذلك المدن الكبرى والبلدات والقرى تعاني بألأساس ازمات نقص شديدة وحادة في موارد المياه ، خاصة خلال فصل الصيف وعلى امتداد اكثر من ستة أشهر ، من بداية شهر ايار وحتى نهاية شهر تشرين ألأول ، حيث يقدر العجز السنوي القائم في المياه للأغراض المنزلية والشرب والصناعة بحوالي 100 مليون متر مكعب .

يقدر عدد التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية بحوالي 635 تجمع ، حسب جهازألأحصاء الفلسطيني ، تشمل المدن الكبرى والبلدات والقرى والخرب ، نسبة التجمعات التي تتوفر فيها خدمات التزود بالمياه حوالي 70% ، و30% منها تجمعات لا تزال تفتقر الى شبكات المياه ، بشكل كلي او جزئي ، وهناك تجمعات سكانية لا توجد لديها مصادر مياه كافية ، وبعضها لا تصلها المياه طيلة اشهر الصيف ، وهناك تجمعات تشمل بلدات وقرى وخرب فلسطينية لا تصلها المياه بالمطلق ، ويعتمد اهاليها على شراء المياه المنقولة بالصهاريج ، وبأثمان عالية جدا تصل احيانا الى 20 شيكل للمتر المكعب الواحد اي ما يعادل 5 دولارات تقريبا . معدل التزود بالمياه في الضفة الغربية لأغراض المنزل والشرب والصناعة معا لا يتجاوز فعليا 80 ليتر للفرد في اليوم ، وإذا ما اخذنا بالحسبان نسبة الفاقد من الشبكات وهي حوالي 35% بسبب اهتراءاجزاء كبيرة من ألأنابيب القديمة فأن المعدل المشار اليه يقل بكثير وقد لا يتجاوز 52 ليتر للفرد في اليوم ، وهذا المعدل يشكل نسبة لا تزيد عن 46% عن الحد ألأدنى لأحتياجات الفرد الواحد في اليوم للأغراض المنزلية والشرب فقط ، وفق معايير منظمة الصحة العالمي .

قياسا على هذه المعدلات بالنسبة للوضع المائي القائم في الضفة الغربية ، يتبين ان حجم العجز الحالي في موارد المياه لأغراض الشرب ، يقدر بحوالي 70 ليتر للفرد في اليوم ، اي ما يقارب 182 ألف متر مكعب في اليوم ، اي ما يعادل 65 مليون متر مكعب في السنة لأجمالي عدد السكان الحالي المقدر بحوالي 2.6 مليون نسمة ، هذا بأستثناء ألأحتياجات الصناعية الحالية والمقدرة بنسبة 12% من ألأحتياجات المنزلية اي ما يعادل 8 مليون تر مكعب ، وبذلك يكون العجز الحالي القائم للقطاعين المنزلي والشرب والصناعة حوالي 73 مليون متر مكعب في السنة ، اي ان الضفة الغربية بحاجة اليوم قبل الغد الى 73 مليون متر مكعب كميات مياه اضافية ، زيادة على ما هو متاح حاليا لهذين القطاعين .

اما بالنسبة للقطاع الزراعي ، فيقدر حجم ألأستهلاك القائم بحوالي 60 مليون متر مكعب ، تستخدم في ري ما يقارب 80 الف دونم ، وقد تراجعت المساحات الزراعية المروية بنسبة عالية جدا خلال العقود ألأربعة الماضية من 120 الف دونم قبل العام 1967 الى اقل من 70 الف دونم حاليا كما اشرنا ، وذلك بسبب تراجع تصريف العديد من الينابيع والعيون وألأبار الزراعية ، وجفاف عدد كبير منها بشكل كامل ، ولهذا فأن ألأحتياجات الحالية للقطاع الزراعي في الحد ألأدنى لا تقل عن 25 مليون متر مكعب في السنة كميات اضافية زيادة على الكميات المستخدمة حاليا في القطاع الزراعي .

بناء على ما تقدم فأن حجم العجز المائي الحالي والقائم في الضفة الغربية لجميع القطاعات بما في ذلك الأحتياجات المنزلية والشرب والصناعة والزراعة يقارب حسب ألأرقام اعلاه 198 مليون متر مكعب في السنة .

الوضع المائي في قطاع يشكل أكبر التحديات وألأعباء التي ستواجه الدولة الفلسطينية القادمة ، حيث اصبحت الملوحة تكاد تغطي نسبة 95% من مناطق المياه الجوفية ، بألأضافة مخاطر التلوث العضوي وغير العضوي الناتج عن عن المخلفات الصناعية والزراعية السائلة والصلبة بنوعيها وخاصة مياه المجاري غير المعالجة . ابعاد هذه المخاطر المائية والبيئية والصحية المتفاقمة يوما بعد يوم قد تحولت الى مخاطر كارثية ، تتهدد حياة اهالي القطاع الذي وصل عدد سكانه الى اكثر من 1.6 مليون نسمة .

يعاني قطاع غزة بألأساس من عجز سنوي تراكمي في موارد المياه ، ابتدأت أبعاده تتفاقم سنة بعد سنة منذ سنوات النكبة عام 1948 ، بعد لجوء عدد كبير من فلسطيني مناطق يافا وجنوبها ، مما ادى الى زيادة عالية في عدد سكان القطاع ، ترتب عن ذلك ضغطا كبيرا على مصادر المياه الجوفية وهي المصادر الوحيدة الموجودة والمحدودة جدا ، حيث لا تتعدى طاقتها السنوية المتجددة والناتجة عن مياه ألأمطار السنوية حوالي 50 مليون متر مكعب ، لم تكن هذه الكميات تكفي اهالي القطاع ألأصليين ، ونتيجة لذلك ابتدأ الوضع المائي في القطاع كما اشرنا سابقا بالتدهور تدريجيا دون اي علاج إلى ان وصل الأن الى الحالة الحرجة جدا .

بتجاوز معدل العجز السنوي التراكمي 160 مليون متر مكعب ، وبالتالي لم يعد من السهل اجراء المعالجة اللازمة لحماية ألأحواض الجوفية من مخاطر الدمار الشامل. فالمياه الجوفية غير المتجددة اصبحت بمعظمها مياه مالحة ، غير قابلة للأستخدام البشري وجزء كبير منها لم يعد صالحا للزراعة ، ولهذا فأن ألأحتياجات المائية لم تعد تقتصر على توفير بضع من الليترات للفرد في اليوم للأحتياجات المنزلية والشرب ، وبضع امتار من المياه الصالحة للأستخدام لأغراض الزراعة والصناعة ، بل ان ألأمر تعدى هذا ألأمر، فالطبقات الصخرية الحاملة للمياه الجوفية قد وصلت الى حالة ألأستنزاف القصوي ، ولم تعد تلك الطبقات ملائمة الى حد كبير لحمل المياه العذبة المتجددة ، مما يعني علميا ان قطاع غزة قد يكون فقد فعليا نظامه المائي الجوفي ، وان الحديث عن صيانة هذا النظام باتت تتطلب اجراءات هيدروجيولوجية معقدة ومكلفة ، تحتاج الى امكانيات مالية ضخمة والى مصادر مياه عذبة بكميات كبيرة لا تقل عن 200 مليون متر مكعب سنويا ، لتغطية العجز التراكمي القائم ولوقف عمليات الضخ بشكل كامل ولتغذية الطبقات الصخرية تدريجيا بمياه عذبة .

يواجه قطاع غزة مخاطر الكارثة منذ سنوات طويلة ، في كافة ابعادها وجوانبها المائية والبيئية والصحية وألأجتماعية وألأقتصادية ، وقد حذرت العديد من المؤسسات والجمعيات الرسمية وغير الرسمية وجهات مختصة في مجال المياه والبيئة من هذا ألأمر ، ومن ضمن ذلك مؤسسات وخبراء اجانب ، حذروا جميعهم ومبكرا من مخاوف تعرض القطاع الى كارثة مدمرة للنظام المائي الجوفي بأكمله ، إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة لوقف تدهور ألأوضاع المائية والبيئية ، والتدخل العاجل والعملي لمعالجة الوضع الخطير الذي يواجه القطاع ، ولكن وللأسف الشديد ، لم تؤثر تلك التحذيرات المتكررة ولم تجدي نفعا ، لا محليا ولا اقليميا ولا عالميا ، وبالتالي ترك اهالي قطاع غزة يواجهون المزيد من المعاناة وينتظرون ألأسوأ .

التحديات المائية هي أكبر التحديات والمصاعب التي ستواجه الدولة الفلسطينية القادمة ، والمتمثلة كما اسلفنا سابقا ، بمدى قدرة الدولة الفلسطينية القادمة على توفير ألأحتياجات الضرورية من الموارد المائية لكافة القطاعات الرئيسية المنزلية والصناعية والزراعية في الضفة والقطاع ، وفق التقديرات المبينة سابقا ، يضاف الى ذلك ضمان حماية ألأحواض المائية الجوفية من خطر الدمارالشامل ، وما يتطلب هذا الأمر من إجراءات قانونية وادارية وفنية تترجم على ارض الواقع ضمن خطط ومشاريع تطويرية .

علما بأن توجه الدولة الفلسطينية الى خيارات وحلول البدائل من المياه غير التقليدية ، وخاصة تحلية مياه البحر لن يكون امرا سهلا ، نظرا للتكلفة العالية للمياه الصناعية المحلاة والتي لا يستطيع المواطن الفلسطيني تحملها في الظروف ألأقتصادية والمعيشية الحالية ، وقد يحتاج هذا ألأمر الى عدة سنوات ليست بالقليلة ، الى ان يتوفر لدى الفلسطينيين بنية تحتية اقتصادية وفنية قوية ، تمكنهم من تحمل النفقات التشغيلية والصيانة وما الى ذلك بألأضافة الى تكاليف عمليات الضخ والنقل والتخزين والتزود بمصادر هذه المياه ، كما ان الدولة الفلسطينية ولنفس الأسباب التي ذكرناها سابقا لن تستطيع ألأعتماد على مياه المجاري المعالجة لأغراض الري الى حد كبير ، نظرا للتكاليف الرأسمالية العالية للأنشاء وبناء محطات المعالجة وشبكات التصريف والضخ والنقل داخل وخارج التجمعات السكانية ، إضافة الى النفقات التشغيلية والصيانة الدورية العالية لمحطات المعالجة والتنقية لمياه المجاري ، وهذه جميعها ستشكل عبئا كبيرا على الدولة الفلسطينية وبالتالي على المواطن الفلسطيني .

ولهذا لن يكون بمقدور الدولة الفلسطيني تحمل اعباء هذا النوع من المشاريع المكلفة جدا ، في حالة عدم وجود جهات مانحة للمساعدة في ذلك ، ولهذا لن يكون من السهل ألأعتماد على مياه المجاري المعالجة كمصادر بديلة للمياه العذبة لأستخدامها للأغراض الزراعية او الصناعية على نطاق واسع ، خاصة في مناطق الضفة الغربية الجبلية والصعبة جدا من النواحي الطبوغرافية .

عليه فأن خيارات مصادر المياه غير التقليدية بما في ذلك تحلية مياه البحر وإعادة إستخدام مياه المجاري المعالجة ، تعتبر غير واعدة بالمطلق لتلبية احتياجات الفلسطينيين من المياه ، وبالتالي فأنه لا مجال لوضع سيناريوهات خارج اطار الحقائق الماثلة من ألأن امام الدولة الفلسطينية القادمة ، وهي استعادة الفلسطينيين لمواردهم المائية المنهوبة من قبل ألأسرائيليين ، وهو ألأمر الجوهري في اطار العملية التفاوضية بشأن المياه .

لذلك نعود الى ما بدأنا به ، وجود المياه يعني وجود مقومات قيام الدولة الفلسطينية القابلة للحياة ، وبالتالي فأن أي سلام حقيقي عادل ودائم لن يتحقق اذا لم يستعيد الفلسطينيون حقوقهم المائية ، لأن قيام دولة فلسطينية عطشى يعني الحكم على هذه الدولة بالموت قبل ان تولد ، وسلام وهمي لم يحصل منه الفلسطينيون حتى على شربة الماء الكافية من مواردهم التي منَّ الله سبحانه عليهم بها .