جريمة سيناء وإعادة تشكيل المنطقة / بقلم: مؤمن بسيسو

22

تحمل الجريمة المروعة بحق المصلين الآمنين في سيناء دلالات خطيرة، تفضي إلى حقيقة المخطط الإسرائيلي/الأميركي الذي يستهدف إعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة العربية، وتنذر بانعكاسات خطيرة على الدولة المصرية سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وأخرى سلبية على واقع العلاقة مع قطاع غزة.

مخطط إسرائيلي/أميركي

يخطئ من ينظر إلى جريمة سيناء من الزاوية الظاهرة المجردة، أو يعتقد أن سفك دماء المصلين في مسجد الروضة بالعريش يمكن حصره في إطار خلاف عقائدي وفكري بين تنظيم الدولة الإسلامية (ولاية سيناء) والجماعة الصوفية بمصر؛ فالأمر أبعد وأعمق من ذلك بكثير، ويرتبط ارتباطا وثيقا بمجريات الأحداث المتلاحقة التي تعصف بالمنطقة العربية حاليا.

لا يختلف اثنان في أن تنظيم الدولة -الذي أقضّ مضاجع مصر وأشعل النار بمنطقة سيناء على مدار السنوات الماضية- يشكل قوة عسكرية شديدة الخطورة، وعميقة التأثير في واقع وجغرافية المنطقة، ويجد الجيش المصري صعوبة واضحة في حسمها والتعامل معها.

إلا أن الاختراقات الاستخبارية الإقليمية والدولية لهذا التنظيم، وتوظيفه لخدمة الأجندات الإقليمية والدولية المعروفة، تجعله أكثر خطورة وتصبغ أعماله وسلوكياته بصبغة سياسية، لا يمكن إخفاؤها أو تجاهلها بأي حال من الأحوال.

يتألف تنظيم الدولة في سيناء من عناصر تنزع نحو التشدد الديني والتطرف الفكري الجموح، ويحاول دائما تعزيز قوتها بعناصر مُضافة من بقية مناطق القُطر المصري، وأخرى واردة من قطاع غزة، من أولئك المضللين الذين تشوهت في عقولهم أهداف ومقاصد الدين، وتوهموا أن الطريق إلى الجنة والخلاص من ربقة الأوضاع المتردية للأمة يمر عبر بوابة القتل وسفك الدماء بلا هوادة.

لكن هؤلاء السذج لا يدركون أن أصابع خارجية خبيثة ذات مرامٍ حاقدة تلعب بقيادتهم وتحركها وفق أهدافها السود، بل إن الوقائع والأحداث أثبتت أن الكثير من هذه القيادات ترتبط ارتباطا مباشرا بالاستخبارات الدولية، وخصوصا الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية.

إن الجريمة -التي هزت سيناء والدولة المصرية- لا يمكن وضعها إلا في خانة التطورات العاصفة التي تستهدف إعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، وإرساء وقائع جيوسياسية جديدة تغيّر وجه المنطقة برمتها وتلقي بها في الحضن الإسرائيلي/الأميركي.

وذلك في إطار مخطط مرسوم تجلت خيوطه ومعالمه بشكل سافر مؤخرا، وظهرت إرهاصاته بصفاقة غريبة حافظت على استتارها سابقا، لكنها اليوم تطل برأسها على رؤوس الأشهاد دون مواربة.

وضع هذا المخططُ إيران وحزب الله وحركة حماس في مقدمة أولوياته، إذ إن إعادة تفكيك وتركيب المشهد السياسي في المنطقة لا تستقيم إلا بإزالة كل العقبات المنتصبة في الطريق، والتي تهدد مسار تطويع المنطقة للإرادة الإسرائيلية والأميركية.

لذا، لم يكن غريبا أن تستيقظ المنطقة ذات صباح على تجليات تطهير سياسي وديني داخل السعودية التي تلعب دور رأس الحربة الظاهر في هذا المخطط، وشهد العالم أجمع مشاهد اعتقال العديد من الأمراء والمسؤولين السعوديين الذين يشكّلون مراكز القوة والثقل السياسي والاقتصادي داخل المملكة ومصادرة ملياراتهم.

هذا فضلا عن اعتقال العديد من العلماء والدعاة الصادقين ذوي القدرة على التأثير في المجتمع السعودي والعربي، وتصنيف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ضمن المنظمات الإرهابية، في محاولة لوضع السعودية تحت دوائر الهيمنة والحكم المطلق لولي العهد محمد بن سلمان وأجندته المتساوقة مع المخطط الإسرائيلي/الأميركي في المنطقة.

تزامن ذلك مع تحريض سعودي واسع ضد إيران وحزب الله، وتدخل مباشر في الشأن اللبناني الداخلي عبر تأليب رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري ضد حزب الله، والعمل على حشره في مربع العزلة السياسية على الساحة اللبنانية.

في ذات الوقت؛ أسهمت ضغوط محمد بن سلمان على الرئيس الفلسطيني محمود عباس في إبطاء مسيرة المصالحة الفلسطينية، وفرض اشتراطات جديدة على حماس لإتمام المصالحة وتولي مسؤولية إدارة شؤون أهالي قطاع غزة، الذين يكابدون معاناة كبرى ويعيشون أوضاعا اقتصادية واجتماعية بالغة التردي والسوء.

وهكذا حقق المخطط الإسرائيلي/الأميركي -الذي تدور في فلكه السعودية وبعض دول الخليج- خطوة بالغة الأهمية باتجاه الهدف المرسوم، وتم وضع الحرب على لبنان -بالقوة الإسرائيلية الغاشمة والتمويل السعودي- على قائمة الانتظار، ولم يتبق سوى استكمال تهيئة البيئة الإقليمية والدولية لمعانقة ساعة الصفر التي بدت أقرب من أي وقت مضى.

لكن الموقف المصري الرسمي المعارض للحرب على لبنان أزعج الإسرائيليين والأميركيين والسعوديين كثيرا، وتسبب في تأخير ميقات الحرب، فكان لا بد من عمل ما لتحييد مصر عن أي تأثير في مسار المخطط المرسوم، فكانت جريمة سيناء التي فاقت بشاعتها كل وصف لإشغال مصر بهمومها الداخلية وتركها تلعق جراحها النازفة، فيما يمضي مخطط الحرب والفتنة دون عقبات.

مصر والانعكاسات المحتملة

لا تتوقف الانعكاسات المحتملة لتفجير سيناء -وما قد يتبعه من أعمال وتفجيرات أخرى- على الدولة المصرية في بعدها الأمني البحت، بل إن الأمر قد يتعدى ذلك إلى أبعاد سياسية تشمل رأس النظام.

“إن ما ينتظر مصر -خلال المرحلة القادمة- جدّ خطير، فالبلدوزر الإسرائيلي/الأميركي يبدو في أشد حالاته جموحا هذه الأيام، وهو على أتم الاستعداد لتجاوز كل المحددات والخطوط الحمر التي سادت طيلة المرحلة الماضية، دون أي كابح قيمي أو ضابط سياسي”

وتحتاج إسرائيل والإدارة الأميركية -ومن لف لفهما من الدول العربية- إلى بيئة عربية رسمية خانعة تنسجم تماما مع مخططاتهما، وتعينهما على إتمام تنفيذ رؤيتهما الخاصة بإعادة تشكيل المشهد العام في المنطقة.

تدرك إسرائيل والإدارة الأميركية أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتشارك معهما في العديد من التوجهات والمواقف والسياسات، إلا أن موقفه الرافض للحرب على لبنان يُنذر بالتشويش على الجهد الإسرائيلي/الأميركي الذي يشكل ضرب حزب الله في لبنان مدخله الأهم ومتلازمته الأساسية.

من هنا فإن الجهد الإسرائيلي والأميركي سينصب -خلال الفترة القريبة القادمة- على ممارسة الضغوط الثقيلة على السيسي والنظام المصري، وقد تأخذ تلك الضغوط أشكالا مختلفة من بينها الضغوط الأمنية التي يتم من خلالها توظيف تنظيم الدولة في سيناء -وجماعات أخرى- لضرب الأمن والاستقرار الداخلي المصري.

هذا إضافة إلى ممارسة ضغوط سياسية وفرض عقوبات اقتصادية تصب جميعها في خانة الإطاحة بالسيسي، واستبداله بأحمد شفيق الذي يجري إعداده حاليا لتولي مقاليد الحكم في مصر لاحقا.

إن ما ينتظر مصر -خلال المرحلة القادمة- جدّ خطير، فالبلدوزر الإسرائيلي/الأميركي يبدو في أشد حالاته جموحا هذه الأيام، وهو على أتم الاستعداد لتجاوز كل المحددات والخطوط الحمر التي سادت طيلة المرحلة الماضية، دون أي كابح قيمي أو ضابط سياسي.

غزة والانعكاسات المحتملة

تبدو علاقة قطاع غزة بما يجري في سيناء وثيقة للغاية بحكم العامل الجغرافي، فضلا عن الرؤية الاستراتيجية لتنظيم الدولة الذي يعتبر قطاع غزة ظهيرا استراتيجياً في حربه مع الدولة المصرية.

في مرحلة ما قبل إغلاق الأنفاق الحدودية بين مصر وقطاع غزة؛ تمكن تنظيم الدولة من تهريب العديد من عناصره عبر الأنفاق، واستقطاب العديد من العناصر الغزيّة ذات الفكر المنحرف إلى صفوفه في سيناء.

إلا أن إغلاق الأنفاق وتشديد القبضة الأمنية من طرف وزارة الداخلية التابعة لحماس على المنطقة الحدودية، والتعاون الأمني المشترك بين أجهزة الأمن في القطاع والسلطات المصرية، أحبط رؤية ومخططات التنظيم ودفعه لإعلان حماس جهة معادية يجب استهدافها.

ولم تكن العملية الانتحارية التي فجّر خلالها أحد عناصر التنظيم نفسه في مجموعة من رجال الأمن التابعين لحماس، على المنطقة الحدودية بين مصر والقطاع في أغسطس/آب الماضي لدى محاولته التسلل إلى سيناء، وأدت إلى استشهاد أحد عناصر الأمن وإصابة آخرين؛ إلا تعبيرا جليا عن حجم العداء بين تنظيم الدولة وحماس، ومؤشرا مهما على ما يمكن أن تبلغه العلاقة بينهما من تعقيدات.

وبين فترة وأخرى، تتمكن أجهزة أمن حماس من ضبط عناصر ومجموعات تحمل فكر وبصمات التنظيم، وتحبط مخططاتها في ضرب حالة الأمن والاستقرار داخل القطاع، وتبقي أعينها مفتوحة تماما على العناصر المشبوهة في إطار جهد أمني وقائي واضح للعيان.

وقد ساعدت المساحة الجغرافية الضيقة لقطاع غزة، وقلة العناصر المنتسبة إلى التنظيم داخل القطاع، والحزم والصرامة الأمنية في التعامل معها؛ في إضعاف تأثير وفعالية التنظيم إلى حد كبير، وتقليل المخاطر والتحديات المرتبطة به إلى مستويات قياسية.

ومع ذلك؛ فإن الأثر المباشر للاضطرابات الدائرة في سيناء يصبّ في الوعاء الغزّي بشكل واضح، عبر اضطرار السلطات المصرية لإغلاق معبر رفح البري بين مصر وقطاع غزة، مما يتسبب في رفع وتيرة المعاناة لأهالي القطاع وإيقاع الأذى بآلاف المرضى والطلبة وأصحاب المصالح والاحتياجات، الذين ينتظرون فتح المعبر بفارغ الصبر.

ولا يبدو أن هناك أحدا قادرا على تجاوز هذه المعضلة على المدى المنظور، أو طرح استراتيجية عمل بديلة قادرة على النأي بمعبر رفح عن كرة النار الملتهبة في سيناء، مما يعني أن استمرار التدهور الأمني بسيناء، أو تنفيذ عمليات ضد الجيش المصري فيها بين الفينة والأخرى؛ كفيل بإدامة أزمة معبر رفح، والاكتفاء بفتحه فترات زمنية قصيرة تخضع أساسا للاعتبارات الميدانية.

وأخيرا؛ فإن الدولة المصرية في أشد الحاجة اليوم إلى أن تكون مواقفها منسجمة مع قيم ومصالح الأمة، ورصّ بنيانها الداخلي سياسيا واجتماعيا، وتطويق كل مساحات الخلاف في المجتمع السياسي المصري على قاعدة التصالح لمواجهة الأخطار الخارجية.

هذا فضلا عن تسريع وتيرة المصالحة الفلسطينية بين حركتيْ فتح وحماس، ومحاولة تحشيد الطاقات والجهود العربية لمواجهة المخطط الإسرائيلي/الأميركي وآثاره المدمرة على المنطقة.