تركيا :صراع السلطة وتفشي الفساد

متظاهرون معارضون لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان
متظاهرون معارضون لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان

لم يكن رئيس الوزراء التركي “رجب طيب أردوغان” ليعلم ما ستؤول إليه الأحوال عندما نادى بإجراء تعديلات على النظام السياسي التركي، ولا سيما النظام العدلي، ليحقق وقتها ما أطلق عليه اسم “توحيد السلطات”. ولم يلتفت إلى أن فصل السلطات وليس توحيدها هو من أهم متطلبات النظم السياسية التي تملك حداً أدنى معقولاً من العدالة.

أجرى “أردوغان” يومها تغييرات دستورية كبيرة، طرحها على استفتاء نال فيه أغلبية مريحة. ولم يلبث أن أعلن أنها البداية فقط وأن التغييرات الديمقراطية ستستمر. وأطلق بعدها ورشات كتابة دستور جديد فيها المزيد من التغييرات من هذا النوع. ولكنها لم تصل لنتيجة ملموسة حتى الآن. ولكن الحكومة استطاعت أن تمرر في مجلس الشعب بأغلبية جيدة مشروعاً لتعديل أصول المحاكمات وقانون العقوبات.

يسهل اليوم تخيل “أردوغان” يعض بنان الندم، فكل التغييرات التي أجراها، وكل ما قام به من توحيد للسلطات وجمعها بشخصه، لم يكفي للقضاء على مراكز القوة الخفية التي تحالف معها يوماً وغض النظر عن تسللها لمفاصل أجهزة العدل والقضاء والأمن. ذلك أنه كان يومها متحالفاً معها على قاعدة القضاء على نفوذ الجيش والانتقام من الضباط.

منذ انطلاق العمليات والعمليات المضادة بين تيار “أردوغان” وتيار الداعية الواسع النفوذ “فتح الله غولن”، في ١٧ كانون الثاني من العام الحالي، لم تعد تركيا هي تركيا؛ مئات رجال الأمن والشرطة يسرحون وينفون إلى مناطق نائية؛ فضائح فساد ثقيلة وصلت إلى نجل “أردوغان”، “نجم الدين بلال”؛ فضائح جنسية وصلت إلى من قيل أنه شقيق “أردوغان”، “مصطفى”؛ ملايين الدولارات عثر عليها في علب الأحذية؛ تعديلات قانونية مستعجلة لتدارك ما يمكن من خسائر بسبب الفضائح؛ نفس القاضي الذي مدحه “أردوغان” عندما كان يحاكم ويلقي بالضباط واليساريين في السجون أصبح الآن محط هجوم أركان “العدالة والتنمية”؛ الدولة تتجسس على الدولة؛ المدعون العامون يقتصون من المدعين العامين؛ أجهزة الاستخبارات تفشي نشاط أجهزة الاستخبارات. وكل شيء يفشي بالضياع والترهل المؤسساتي.

بالنسبة للقواعد الشعبية هناك محطا أمل رئيسيان؛ رئيس الجمهورية “عبد الله غول” بالنسبة للبعض، والجيش بالنسبة للبعض الآخر. ولكن الطرفين يخشيان الدخول في الصراع.

“غول” صمت طويلاً رغم كل المناشدات. وفي النهاية أدلى بتصريح يحمل معنى الطمأنة. ففي الخطاب الذي ألقاه في الكلية الحربية أعاد التأكيد على مبدأ “فصل السلطات” الدستوري، معيداً إلى الأذهان مصطلح “checks and balances” الانكليزي، ويعني “الضبط والمعايرة”. ولم يلبث أن زاد في تلميحاته اتجاه “أردوغان” وضوحاً عندما تحدث عن معارضته للسلطة المطلقة التي أفرزت نماذج مثل “ستالين وهتلر” على حد تعبيره.

لكن “غول” لم يمارس أياً من صلاحياته الدستورية حتى اللحظة لوقف التدهور. ولم يوجه بوقف التعديلات القانونية المخطط لإجرائها لإحكام المزيد من السيطرة من قبل تيار “أردوغان” على أجهزة العدل. وهو ما دفع الصحافي “جنكيز تشاندار”، في زاويته في صحيفة “راديكال”، إلى مناشدة الرئيس للتحرك فوراً، لافتاً إلى العلامات السيئة التي تحصل عليها بلاده في تقييمات الاتحاد الأوربي.

ونعت “تشاندار” محاولة الحكومة تمرير التعديلات الجديدة بـ”غير الأخلاقية”، مشيراً إلى أن الخطوة التي تحاول حكومة “العدالة والتنمية” أن تخطوها كافية لـ”تنميل بدن لجنة الديمقراطية في الاتحاد الأوربي” على حد وصفه. وقال: “هل يمكن بعد الآن توضيح الوضع بشعار مكافحة الدولة داخل الدولة؟ وحتى لو كانت النية هي ذلك، فهل يمكن تحقيق ذلك بالقضاء على “فصل السلطات”.

أما معلقو الآمال على الجيش فإن غالبيتهم العظمى تعلموا عدم وضع كل البيض في سلته، إذ أنه أحبطهم كثيراً عندما لم يستجب لدعواتهم التدخل لحل إشكالات سياسية داخلية أيام كان له وزن سياسي أكبر من الآن بكثير. ووصلت الأمور إلى حد أن وصفه أحد قادة حزب الشعب الجمهوري بعبارة “نمر من ورق”.

بدورها عنونت صحيفة “فاينانشال تايمز” تحليلها للوضع في تركيا بعنوان “الغرور يقضي على النموذج التركي”، والذي تشير فيه إلى علة “الغرور” لدى “أردوغان شخصياً ولدى حكومته بشكل عام باعتبارها علة رئيسية مسؤولة عن تحطيم ما أطلقت عليه اسم “النموذج التركي”، والذي تقصد به المطبوعات الغربية بشكل عام نموذج المزاوجة بين الإسلام والديمقراطية. وهو ما لمعت بناءً عليه صفحة “أردوغان” طويلاً خلال السنوات الفائتة، حتى لقد جعلته قدوة ومثالاً لـ”الربيع العربي”.

وأضافت الصحيفة: “الوزن السياسي، الذي كان “أردوغان” قد كسبه، قد تحطم اليوم في خضم الفوضى السياسية في تركيا. والضربة الأخيرة كانت عبارة عن فضائح فساد طالت أعضاء الحكومة. وكان رد “أردوغان” هو حماية نفسه من خلال منع التحقيق مع أصدقائه ضارباً عرض الحائط بالقوانين”

وانتقد “أحمد هاكان”، في صحيفة “هورييت”، تصريحات وزير العدل الجديد، “بكر بوزداغ”، التي قال فيها “الله والدولة.. كلاهما لا يقبلان الشرك بهما”، معتبراً أن هذه التصريحات تحمل خطرين؛ أولهما أنها تهدم مفهوم الدولة الشفافة العادلة التي تقبل بالمساءلة؛ وثانيهما تعريض آخرته نفسها من خلال تأليه الدولة.

وقال “هاكان”: “على الدولة أن تقبل بالشرك بها، ذلك أن الدولة إن لم تكون مشركة فإنها تكون تؤله نفسها. والدولة التي تؤله نفسها تغدو، بسبب افتقارها إلى الصفات الإلهية العلية، أكثر العناصر جبروتاً وظلماً ولا أخلاقية”

الأتراك معروفون بحساسيتهم اتجاه ما يقال عنهم في الصحافة العالمية. وقد لفت “كونري جيوا أوغلو”، في صحيفة “ملليت”، إلى تغير نظرة العالم إلى بلادهم؛ حيث اكتسبت صفة “الدولة المتجبرة” بعد أحداث انتفاضة حديقة “جيزي”؛ وصفة “المتعاملة مع التنظيمات المتطرفة” بسبب دعمها لتنظيمات سلفية في سورية، وأتت مؤخرة حادثة منع تفتيش الشاحنة المتوجهة إلى سورية بالرغم من قرار النائب العام. والصفة الأخيرة التي اكتسبتها تركيا بنظر العام، بحسب “جيوا أوغلو”، هي “الدولة المليئة بالفساد”.

وربط “جيوا أوغلو” بين هذا التراجع والاستثمارات الأجنبية، حيث أشار إلى أن كل نقطة تنزل من تصنيف تركيا في مجال “الاستقرار السياسي” تعني هبوطاً بـ٣٦٠ مليون دولار من الاستثمارات، رافضاً فكرة المؤامرة العالمية التي يدافع بها الإعلام الأردوغاني عن نفسه، فيشير إلى ما كتبته “التايمز”: “تركيا هي صديقتنا. وعلى الأصدقاء أن يشدوا أذن أردوغان ليهمسوا له فيها أنه فان”

المصدر: وكالة أنباء آسيا